السعودية قبل وبعد 1979م
كثرت الروايات والحكايات هذه الايام عن الحياة في السعودية ماقبل الصحوة وخلالها وما يأمل بعضهم ان تكون هذه الأيام هي نهايتها, لكن معظم أولئك الذين يتناولون الحكايات عن حياة السعوديين قبل مرحلة الصحوة أي قبل الثمانينات هم من جيل عاش تفاصيل الصحوة ذاتها وليس حالة نموها أو ما قبلها، أي ان أعمارهم لا تتجاوز الثلاثينات أو حتى الأربعينات “وهؤلاء سنسميهم هنا جيل ٧٩”.. الحقيقة ان من يبحث خلف الأمر سيكتشف أن السعودية باختلاف مناطقها وثقافاتها المتعددة وتركيبتها السكانية كانت تخضع لانظمة ادارية وتنظيمية مختلفة إلى حد أكبر مما هو عليها اليوم,، كما أن العمل كان عشوائياً وارتجالياً في بداية تكوين الدولة وتعاقب ملوكها ، لذلك فإنه من الصعب إلى حد كبير أن تصل لنتائج متشابهة عندما تستمع لشهادات الأجيال المعاصرة للحدث ولشهادات أشخاص في مراحل ما قبل الحدث أي من مواليد الخمسينات والأربعينات “وهؤلاء سنسميهم جيل ما قبل ٧٩”.
يحصر الأكاديمي د.عبدالله الغذامي فترة الصحوة بين العام ١٤٠٧هـ -١٩٨٧م وحتى ١٤١٧هـ -١٩٩٧م وفقا لآثارها البارزة على المجتمع والتي تتمثل في حشود متشددة تمكنت من صفوف الطلاب واقتحمت البيوت فكريا وحياتيا، وفي رؤية د. الغذامي المعاصرة لابرز مظاهر التشدد التي يؤكد هو وغيره من جيله وجودها من قبل ١٩٨٧ تنقل نمو هذا التشدد عبر اليات وطرق لم تكن لتتمكن لولا منحها الضوء الأخضر من الدولة.
هناك من يربط الصحوة بحركة جهيمان الشهيرة عام ١٩٧٩م، وفي هذا القول يرى المعاصرون من جيل ما قبل 79، أن جهيمان ومن معه وُجدوا نتيجة تغلغل الفكر الموجود أساسا والذي أدى لاندفاعهم وتبنيهم عملا ارهابيا أخرق نتيجة لحماستهم الشديدة في تطوير وتطبيق الفكر الموجود أساسا، كما يرى آخرون من جيل 79 ان ذروة مظاهر التشدد قد برزت خلال مرحلة حرب الخليج الثانية مطلع التسعينات، ولهذه كان الأثر واضحا على دول الخليج العربي كافة وليس السعودية وحدها، وهنا تحضرني عبارة سمعتها من قبل في نقاش دار بيني وبين اشخاص من دول عربية مختلفة اذ قال احدهم إن ظهور قناة ام بي سي في تلك المرحلة حاول أن يخفف من التشدد في السعودية لكنه زاد بطريقة أخرى مظاهره في دول عربية كمصر بسبب محاولة موازنة البرامج، أما القول الأكثر بعدا عن الواقع في رأي معاصري تنامي الفكر المتشدد في السعودية من جيل ما قبل 79، فهو ربط مرحلة الجهاد في أفغانستان منتصف الثمانينات بتأثير الصحوة على المجتمع والدولة لأن المسألة كانت سياسية أكثر من كونها اجتماعية.
ويروي لي أحد شهود مرحلة تكوين كرة الثلج المتشددة في الخمسينات والستينات دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آنذاك وكيف كانوا يطاردون بشكل اخف مما بدا عليه الحال في الثمانينات والتسعينات وحتى الالفية الجديدة، ويستطرد بقصة معروفة في البيئة الحجازية عن رجل قاوم شراسة جهاز الهيئة فتربصوا له إلى أن وجدوه يوما في مدينة الطائف يشرب الخمر مع جلسائه فقفزوا من أعلى السور وانهالوا عليه ضربا ثم اعتقلوه لأيام قليلة.
في الحقيقة مايدفعني لكتابة التدوينة هذه وما دفعني للبحث والاستماع لروايات آخرين عاصروا مرحلة نمو التشدد هو حضوري لمناسبة في مدينة نيويورك منذ مدة قريبة تحدثت فيها احدى السيدات المطالبات بتمكين المرأة واستعادة حقوقها عن تأثير عام ١٩٧٩م أي “حركة جهيمان” على واقع المرأة السعودية وحقوقها، لكن القراءة في الماضي أخذتني لنتيجة قد تُختصر بأن حركة احتلال المسجد الحرام العام 79 والتي تستشهد بها بعض الناشطات في المحافل الدولية كانت شرارة مثل شرارة حركة قيادة المرأة السيارة عام ٢٠١١، وبالتالي فإن نيل مكاسب الشرارة قد لا تظهر نتيجته الا بعد اعوام تتبعها نتيجة لقوة حراكها وعدم تجاهلها من اتباعها، كما أن حقوق المرأة لم تكن موجودة أو غائبة في مرحلة ما قبل جهيمان، وفي تعيين الصحافية السعودية فاتنة شاكر كرئيس تحرير مجلة سيدتي عام 1980م مثال على ذلك، كما أن منع ظهور المرأة غير المحجبة خلال الإعلانات التجارية على القنوات التلفزيونية الرسمية السعودية لم يتم إلا بعد حرب الخليج الثانية تقريبا أي مطلع التسعينات وحتى مقطع طالبات دار الحنان بجدة منتصف الستينات الذي يتم تداوله للاستشهاد بحالة الانفتاح يعكس طموحات الطالبات بخلع العباءة والحجاب وكما تقول إحداهما أنهما ترتديانه لارتباطه بالدين والتقاليد ، لذا فان حقوق المرأة كانت تتشكل آنذاك وفق فرض الأنظمة وتطويرها على كافة أفراد المجتمع، ونظام الجوازات على سبيل المثال كان يتطور قانونيا فوضعت الصور الشخصية على الجوازات وعبر السنوات بدأ تمكين أفراد الاسرة البالغين من نيل جوازات مستقلة، وتروي لي سيدة انها في عام ٢٠٠٨ كانت مسافرة كعادتها مع جدتها في الاجازة الصيفية فطُلب منها إذن سفر جدتها من ولي أمرها ولما تفاجئت بالطلب غير المعتاد اظهر لها الموظف خطاب رسمي حديث يشير إلى شمول السيدات فوق سن الخمسين ضمن قرار السفر باذن ولي الامر، بالطبع بعض هذه الروايات وغيرها خاضعة للاختلاف الزمني في تطبيقها في المناطق السعودية، فإجابات السيدات اللاتي تواصلت معهن من جيل الخمسينات والستينات ممن حظين بفرصة الابتعاث للدارسة العليا في السبعينات والثمانينات كانت منحصرة بين مطلع الثمانينات وحتى منتصفها، أما تحليل الرجال من جيل ما قبل 1979 الذين سألتهم، فقد كان يميل لرواية المخرج والمؤلف “انتوني توماس” كما رواها في فيلم “مقتل أميرة” أي أن المنع بدأ منذ ذلك العام 1977 ولكنه أخذ وقتا ليتم تعميمه على كافة مناطق المملكة ومنافذها، وفي العام ٢٠٠٨ خرج تصريحا للواء منصور التركي المتحدث الأمني الرسمي بإسم وزارة الداخلية أن النظام لا يمكن تغييره لمجرد صدور فتوى، باعتباره موضوعا من قبل السلطات التشريعية،في اشارة لفتوى الشيخ عبدالمحسن العبيكان التي اثارت الجدل والشائعات آنذاك، وهو ما يأخذني لذكر أحد الاراء التي اشارت الى أن العقلية الدينية المتشددة لا يمكن لها ان تبيح سفرها داخليا دون محرم وتقييدها بتصريح سفر للخارج، لكن ما يمكن ايجازه من قراءة تاريخ المجتمع ماقبل 1979م يأخذنا للإيمان بأنه ربما كانت مرحلة السبعينات مرحلة اقل تشددا بالمقارنة بسابقاتها وهذا ما قد يفسر التصرف الارهابي الذي قام به جهيمان ورفاقه للعودة للسعودية التي يريدون.
نتيجة اخرى يمكن توثيقها في المرحلة الحالية وهي أن المجتمع قابل للتغيير أيا كان شكله، فمجتمعاتنا دائما مستعدة وجاهزة للتغيير السلبي والايجابي وان كنا قد اصبحنا في تلك المرحلة مطاوعة صغار نحلل ونحرم ونبلغ على بعضنا البعض، فاليوم نحتفل ونطرب ونلوم من لا يعجبه الامر.
أخيرا أؤكد أن تناولي احد الاسئلة المتعلقة بالصحوة في حسابي على تويتر لم تكن الغاية منه استخدام الإجابات في تدوينتي هذه، فتويتر ليس المكان المناسب للحصول على شهادات وروايات دقيقة من وجهة نظري وتجربتي، كما أن معظم التعليقات التي وصلتني في تويتر انحصرت في مسألة انفصال مجلس العائلة الى مجلس للنساء وآخر للرجال رغم أن هذه النقطة تحديدا تعود لتبني المجتمع الفكرة التي أصبحت رائجة مع مرور الوقت وانتجت عبارات كالاختلاط والسفور حتى تحولت فيما بعد لأنظمة صارمة.